الوجه المتغيّر للحكومة في العالم

ربّما كان الحكم أسهل في الماضي عندما كان العالم قرىً صغيرةً متناثرةً في أرجاء المعمورة، كلّ قريةٍ منهمكة بشؤونها الداخليّة ولا تتواصل مع الآخرين إلا لحاجة، في أيام كان الحادث الذي يقع في الصّين يحتاج عشرات الأيام ليبلغ أمريكا في القرن التاسع عشر، وحين كان النّخبة فقط هم من يطّلعون على الصّحف ويقرؤون الكتب، وقلّة هم من يتابعون الإذاعات، ومحدودون هم من يشاركون في الشّأن العام في القرن العشرين.

 

لكن مع مطلع القرن الواحد والعشرين، وبعدما أصبح العالم كلّه قريةً صغيرةً، وغزت رياح العولمة كلّ المرافق حتى عصفت بكل بيتٍ وكلّ شخصٍ، حيث لم يعد يخلو بيتٌ من التلفاز والقنوات الفضائيّة والإنترنت، ولم يعد شخصٌ ليس له بريدٌ إلكترونيّ وحساب على مواقع التواصل الاجتماعيّ... بل أصبح التواصل ممكناً عبر الحواسب المحمولة والشبكات اللاسلكيّة وأخيراً وليس آخراً عبر الهواتف الذكيّة.

 

أصبحت مهمّة الحكومة التخطيط لتحقيق التنمية والاستجابة للمتغيّرات المعولمة والتواصل والتأثر (أي التأثير المتبادل) مع العناصر الفاعلة، ولكنّه دورٌ لم يعد محصوراً بها في ظلّ تزايد دور الإعلام والمجتمع المدنيّ والمؤثّرات العابرة للحدود والقوميّات. هذه المهمّة التي لا بدّ من إعادة تعريفها وتخطيطها باعتبار هذه العوامل لتحقيق الأهداف الاستراتيجيّة للمجتمع والأمّة. وبالتالي ستعاد صياغة تعريف الحكومة للانتقال من المفهوم السّابق الضيّق المنحصر بالوزراء وقيادة البلاد والمشار إليها بالإنكليزية بكلمة (Government) إلى المفهوم الأرحب المشتمل على جهازٍ حكوميٍّ متواصلٍ ومتساوقٍ مع فعاليّات المجتمع المدنيّ والمؤثرات الاجتماعيّة والعناصر الجماهيريّة والمحليّة لصياغة منظومة حكم أو حوكمة والمشار إليها بكلمة (Governance) باللّغة الانكليزيّة، وهذا المفهوم هو المحوريّ في كلّ الفقرات التّالية أينما وردت كلمات حكومة أو حكم فهي تشير له.

 

عندما تكون المواطنة هي الهدف، والحكم الرّشيد هو الناظم

إنّ المواطنة الفعّالة في معناها المتجاوز للمعنى المنفعل المنحصر في الإقامة في الدّولة والعمل ضمنها والمشاركة في الحياة السّياسيّة المحدودة بالانتخابات، معنىً يتعدّاها لآفاق أوسع تشتمل على فلسفة أنّه على المواطنين العمل لإصلاح وتحسين المجتمع من خلال المشاركة الاقتصاديّة، والعمل الطوعيّ والعمل في الشّأن العامّ، وأيّ نشاطات أخرى من شأنها تحسين حياة جميع المواطنين.

في المجتمعات التي تسودها فلسفة المواطنة الفعّالة تتضافر جهود الحكومة، الأحزاب السّياسيّة الفاعلة، وسائل الإعلام الحرّة، مؤسّسات المجتمع المدنيّ ومؤسّسات القطاع الخاصّ في نسقٍ مطردٍ متوازنٍ ومتواصلٍ لتحسين حياة المجتمع ككلّ وحياة الأفراد من خلال المشاركة في إبداء الرأي والتأثير الإيجابيّ والعمل للمصلحة الجماعيّة والمنفعة الذاتيّة تحت مظلّة حكم القانون والشفافيّة والمحاسبة.

 

إنّ مفاهيم الحكم الرشيد تشكّل إطار عملٍ واضحٍ لتطبيق حكم يسعى للموازنة بين مختلف المؤثّرات للوصول لمستوى الحياة الملائم للأفراد والمجتمع ككلّ، مرتكزاً على مبادئ أساسيّة للتطبيق الفعّال تشتمل على التشاركيّة، حكم القانون، التوجّه بالأغلبيّة، الشفافيّة، المحاسبة، الاستجابة، الفعاليّة والكفاءة، المساواة والشّمول. تشكّل هذه المبادئ ناظماً لممارسة المواطنة الفعّالة والصّالحة والتي تهدف بجماعها إلى الارتقاء بالحياة المجتمعيّة نحو الأهداف الجماعيّة، وتحسين حياة الأفراد ليحققّوا مشاريعهم الخاصّة تحت سيادة القانون واحترام الجماعة.

 

إنّ توجّه الحكومات للتغيّر باتجاه تطبيق مواطنةٍ فعّالةٍ صالحةٍ منتظمةٍ بأطر الحكم الرّشيد هو نهج صحيّ ينبع من صميم احتياجات الأمّة في تحقيق أهدافها التنمويّة، ومواجهة تحدّياتها الخارجيّة بمناعةٍ عاليةٍ تشاركها فيها الحوامل المجتمعيّة المتعدّدة التي تضمن مساواةً موجّهةً بالأغلبيةً تحت حكم القانون، في تكافلٍ فعّالٍ وكفؤٍ، يحقّق استجابة لهذه التحدّيات والأهداف في ضوء شفافيةٍ عاليةٍ، وحسٍّ عالٍ بالمسؤوليّة الموضوعة تحت المحاسبة.

 

مقاربةٌ جديدةٌ في عالمٍ منفتحٍ

في مواجهة هذه التحدّيات في هذا العالم المنفتح، لا بدّ من مقاربةٍ جديدةٍ تختلف عن المقاربات التقليديّة التي هيمنت على نهج الحكومات في الفترات السّابقة، مقاربةٌ على كافّة الصّعد في داخل العمل الحكوميّ، وعلى مستوى التواصل مع الجماهير والجهات المؤثّرة، وعلى مستوى الإفادة من خبرات فرق العمل والخبراء في قراءة الواقع، واستقراء المستقبل، وتطوير الحلول، في ضوء مؤشّرات حقائق تساعد على تفهّم المشاكل وتأثيرات الحلول المطبّقة.

 

هذه المقاربة لا بدّ لها من الإفادة من الثورة التقانيّة المعلوماتيّة وعولمة الإعلام والتشابك المعرفيّ المتمثّل بشبكة الإنترنت ووسائل التّواصل الاجتماعيّ وتغلغل الاتصالات في كافة مناحي الحياة ووصولها إلى الهواتف الذكيّة والحواسب اللّوحيّة. ولا بدّ من أن يرافق ذلك نهضة استراتيجيّة للحكومة لتعديل النهج الحكوميّ وفق المقاربة الجديدة على المستويات التاليّة:

 

قطاعات التّأثير وصناعة السّياسة التقانيّة

لم يعد التأثير في الجماهير والقطاعات الاجتماعيّة أمراً محصوراً بالحكومة والأجهزة التابعة لها، فمن المعروف أنّ وسائل الإعلام ومؤسّسات المجتمع المدنيّ، بل وأخيراً وليس قطعاً آخراً، جماعات مواقع التواصل الاجتماعيّ ذات التأثير الواسع والكبير في التغيّرات والحركات الناشئة الاجتماعيّة منها والسّياسيّة.

 

ولن توجد أدوات تساعد في استيعاب هذا الواقع التأثيريّ الجديد لا ترتكز على سياسة تقانيّة مبنية على تقانات المعلومات والاتصالات، حيث توفّر مثل هذه الأدوات فوائد جمّةً تشتمل على الاستخدام الفعّال لتقانات المعلومات والاتصالات لتحقيق الأهداف الدبلوماسيّة والحكوميّة، وتجميع المعلومات والمعارف الرقميّة وتصنيفها ودمجها للإفادة منها في الحكم، وتحقيق تواصل الدبلوماسيّين والحكّام بشعوبهم والاستماع إليهم والحوار معهم. 

 

إنّ السياسة التقانيّة بنقاطها السّابقة تنضوي ضمن الفئات التصنيفيّة الواسعة التالية: